قصة قصيرة " يحدث ذلك كل صباح .."

يحدث ذلك كل صباح .. قصة قصيرة

ـــ يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم ..
يستقبل جمعة يومه الجديد بترديد هذا الدعاء ،بعد أن يؤدي صـلاة الفجر في جامع صالح سليم القريب من بيته ، من خلفه ابنه سالم يدفع العربة الخشبية التي تعلق بذراعيها الطويلتين .
طقس يومي يتكرر كل صباح ، يبدأ من عند "قشلاق السواحل "وينتهي عنــد ميناء الصيد مروراً بكل معالم المدينة ..
قال الصبي لنفسه وهو يتحسس ألم حصيات الإسفلت تندك في قدميه الحافيتين :
ـ إمتي ربنا يكرم أبويا ويشتري عربة نصف نقــــــــل وأترحم من شغلانة "الزق " دي ..
يرمقه الأب بنصف نظرة ، بعض قطرات من عرق تفصدت فوق جبينه ،ونتأ شعر صدره من تحت صديريه الكالح اللون ..
جاء صوته :
ـ " زق " بعافية شوية يا سالم ،خلينا نلحق المراكب قبل ما تدخل "الموردة "1"..
،،،،،،،،*
يقضم سالم طرف رغيف معه حشته له أمه بقطعة جبن ودست معه ثمرة خيارفي جيب "التريننج سوت" الذي اشترته له من "سوق البالة " ليرتديه ضمن فريق الأسد المرعب الذي يلعب بين صفوفه ..
يتحسـر وهو يلمح الأطفال في مثل سنه يتواثبون حول ذويهم في الطريق المؤدية إلي شاطئ البحر الذي يعشقه ،وفي أيديهم "كرة المضرب " وعلي أكتافهم الشماسي الملونة ..
ـ لعن الله الإجازة الصيفية ، وتلك المدارس التي تُغـلق أبوابها بالضبة والمفتاح .. رحم الله أيام الدراسة .
قال سالم وثمة دمعة منسحقة تحت ظاهر كفه يمسحها من فوق خده و يتذكر الأستاذ محمد مندور مدرس الفصل وهو يربت فوق كتفه :
ــ عارف يا سالم ، أنت تلميذ ممتاز، أنا مبسوط منك ، عايزك ترفع رأسي أمام المفتش ..
،،،،،،،،*
كانا قد وصلا إلي باب ميناء الصيد ، الشاويش مرعي يستوقف جمعة ، يسأله عن "الباظ"2" الذي انتهي ويحتاج للتجديد :
ـ بكرة يا حضرة "الصول" أجدده ..
يمتص الشــاويش مرعي دخان سيجارته ثم يمجه في الهواء مشاركــاً جمعة قفشاته ونكاته الجديدة ، ويغض الطرف عنه ليدخل ،ويبرم شاربيه في زهو المنتصر ، ثم يعود لسؤال جمعة ويتحسس صدغه المنتفخ :
ـ و ده مين كمان يا سي جمعة..
يدع سالم الكلمات تمر دون تعليق ، وينسل بعربته يجرها وحيداً ، بينما يتأخر الصبي إلي الخلف عدة خطوات ، ينفخ في قبضتيه المكورتين بملء فيه لينطلق كالسهم ـ كما وصاه أبوه ـ دون أن يلحق به الشاويش صاحب "الكرش " المتهدل والبدانة الواضحة
الوقت مر، جاء الضحي ، ثمة قوارب صيد تتأرجح إلي جوار رصيف "السعدية "3" بينما تبدو في الخلف سفينة عملاقة تمر في القنــــاة ، والنوارس تحط وتعلو فوق سطح البحر تلتقط رزقها ..
يجـــلس جمعة وبجواره سالم عند رأس قهوة "محمد الدميري" قريبه الذي جاء مرحباً بالصغير، وناول الرجل كوب الشاي والجوزة بينما أهدي الصبي كوباً كبيراً من السحلب :
ــ أحلي سحلب "معتبر" بالبندق للغالي ..
وربت علي كتفه بحنان ، ومضي لحاله موصياً "الواقف علي النصبة ":
ــ واحد "عناب " مثلج للأستاذ سالم والحساب خالص.
،،،،،،،،*
مراكب الصيد تأتي مظفرة بصيدها ، تعلو سطوحها صناديق الأسماك الممتلئة حتى آخرها ، يفرد جمعـــة كفه فوق عينيه مظلة ويردد مخاطباً ولده :
ـ آهي مركب خالك الحاج الأباصيري دخلت ، يا الــلا نلحقها عند "الموردة"..
ينسل ريس المـــركب جهة الرصيف مصطحباً تحت إبطه دفاتر السواحل ،متجهاً ناحية " كشك التصاريح "
الخشبي ، يلقي بالسلام علي من فيه ، ثم يحيي جمعة :
ـ نهارك ابيض يا عم جمعة ، إزيك يا سي سالم ..
يقفز جمعة ناحية "الكوارته"4" برشاقــــــة شاب في العشرين من عمره ، يداعبه البسيوني حميد :
ـ ما شاء الله ، البطل بطل مهما كان ..
ينادي جمعة علي الحاج الأباصيري :
ـ حمد الله علي السلامة ياحاج ...
يعدل الحــــاج الأباصيري من وضع عمامته الزاهية في بياضها :
ـ الله يسلمك ياجمعــــة ، إزي عيالك ، ازيك ياسالم ..
ـ نحمده ونشكر فضله ..
يرد سالم فرحاً : أمي بتسلم عليك .." ويقبل يده "..
يدنيه الحاج الأباصيري منه ويقبل جبهته ويخاطب جمعة :
ـ خف عن الأستاذ شوية يامعلم جمعة ، دعه يفرح مع زملائه في "المسامحة"5" ..
يهزجمعة رأسه موافقاً :
ـ أهوه بيساعد شوية "ع المعايش" ،عايزه يطلع رجل.
ــ الله يعين كل حي علي حاله


،،،،،،،،*
يبدأ جمعة في رص صناديق الأسماك بعد أن "يكبش" من كل صندوق بكفــه العريض ، رصات متقنة تتكوم علي رصيف الموردة ، يتم بعدها المزاد ..
يصرخ الدلال :
ــ ابن حلال ..
التجاريأتون تباعاً من عند القهوة ، وتمتـــد يد سالم اليمني لتجر " الزنبيل " المصنوع من أربطــة كراتين المنطقة الحرة إلي العربة الخشبية ، ويفرغــه علــــــي سطحها المصنوع من رقائق الزنك الناعمة، ثم يلقمـــه بسرعة إلي كف أبيه ، ليسابق الريح بعدها ليشتـــــري قالباً من الثلج ويجرشه في الماكينة إلي قطع صغيـــرة ويعود به إلي العربة ..
يترامي لأذنيـــه صوت التجــــــار وهم يزايــــدون ، ويصنعون "الكباري" 6" للدخلاء ليوقعونهم في شرك زيادة السعر ..
يضحك في سره ، وينشغل في تقسيم الحصيلة :
ـ بربوني ، حارت ، هليلي ، مرجــــــــان ، جمبري ، كابوريا ، أبو كرش ، سردين ..
رفع سالم عينيه لأعلي ، رجل ضخم الجثة يرتدي حلة بيضــــاء ، وقبعة وحذاءً من نفس اللون ، سالم يتفحصه مــلياً ، وتنعكس علي زجاج نظارته الملونة أشعة شمس الصباح ، أشار إلي كوم السمك :
ــ بكم تبيع هذه الأسماك ؟
ــ الوزن بالكيلو يا باشا ..
ــ وفين الميزان ..
ــ سأخرجه من الصندوق حالاً ..
يقطع حوارهما صوت أبيه ينادي :
ــ بتعمل إيه عندك يا سالم ، خف شوية وسيب اللي ف ايدك دلوقت ..
يطير كالفراشة يحط عند أبيه تاركــــاً الرجل بجوار العربة ،يفحص الرجل كوم الجمبري بأطراف أصابعه بينما يعــود سالم وهو يجرجر "زنبيلاً " آخر يرسم به خطاً علي الأرض :
ــ سأشتري كوم الجمبري كما هو ..
ــ ما أقدرش ، لما أبويا يجي ..
ــ وأنت ، مش راجل ؟
ينظر إلي الرجل وتصدمه الكلمة، ويسرع ثانية لتلبية نداء أبيه ، ويعود حاملاً "زنبيلاً " جديداً :
ــ عشرين جنيهاً في الكوم كله ..
يفــرك الرجل الورقة الخضراء بين إبهامه وسبابته ،يأتي صوتها مخشوشناً يشاكس أذنيه، يرد عليه :
ــ ثلاثين جنيه بدون نقصان ..
ــ طب نقسم البلد بلدين ، خمسة وعشرون
ــ كلمة واحدة
ــ وهو كذلك ، أمرك يا سيدي ..
منحـــــــه المبلغ وراح يمسح بكفه الناعمة علي شعر رأسه :
ــ معلم ، والله يا سالم ..
قبّل سالم المبلغ في قبضته ورفعه لجبهته ثم طـــــواه ودسه فــــي جيبه بنطلونه الصغير، ومضي الرجـــــل إلي سيارته البيضاء التي أطل من فتحة زجاجها أطفال صغار ومعهم كلب أبيض تمني لو يملكه..
جاء صوت أبيه ليوقظه من أحلامه ، خاطبه :
ــ خير ...
ــ استفتحت ..
ــ يجعل استفتاحك لبن ..ربك عليه جبرالخواطر..


،،،،،،،،*
اقترب وقت العمــــــل من نهايته ، جري سالم ناحية حنفية الماء ليشرب وليغســـل رجليه وما علق بذراعيه وملابسه من أوساخ وطين ، بينمـــــــــا الشمس ترسل حرارتهـا ، وخفتت أصــوات التجار وذهبوا للقهوة في الوقت الذي واصـــــل فيه صبيانهم رحلة الخروج من باب الميناء تباعاً ..
قال له أبيه : كم الحصيلة ؟
ــ ثلاثون جنيهاً ..
ــ فقط ..
ثم مد يده إلي جيبه الضيق ليخــرج النقود ، فخرجت معها جنيهات :
ــ إيه ده ، كمان بتسرق يا سالم ،أمال الفلوس دي منين "مدكنها " من ورايا ..
ولكمه الأب مغتاظاً ، بكي الصغير ،ودافع:
ــ لأ ..والله دول من خالي الأباصيري ، انا عمري ما اسرق أبداً ...
احتضنه الأب معتذراً وهو يشعــر بحزن لتلك التهمة الظالمة وصالحه بكلمات رقيقة :
ــ بكــــــرة تبقي معلم كبير أو تاجر أد الدنيا ، النهاردة تدخل فيلم فريد شوقي علي حسابي ..
يتدلل قليلاً علي أبيه :
ــ عاوز أبقي صحفي لما أكبر..
يتجهم وجه أبيه :
ــ صحفي يعني إيه ، بتاع جرانين ..
ــ لأ يا أبه ، عايز أبقي زي مصطفي بيه وهيكل .. يضحك :
ــ هيكل واسمع عنه أما مصطفي بيه..

قاطعه : مصطفي أمين بتاع أخبار اليوم ، الأستاذ جلال حكي لنا عنه في حصة المواد الاجتماعية ..
ـ يا سيدي .. يا للا بينا .. بلا أهرام بلا أخبار..
كانا قد تناولا الشاي مع الأقــراص المحشوة بالعجوة صنعها "التوتو" واتجهـــــا ناحية باب الميناء استعداداً للذهاب إلي السوق ..
وعند الباب ترك جمعة العربة بما عليها من أسمــاك وفر هارباً والصبي أمام الأمر الواقع :
ـ رايح فين يا أبه ؟
رمقه الأب من بين تلال صنــاديق الأسماك الفارغة عند السور وآتاه صوته :
ــ جر العربة بعزم شوية ، اللجنة بتاعة التصاريح عند الباب ، اسبقني قدام ..
أقبـــــــل الشاويش مرعي مـــزهوا وقبض علي ياقة قميص الصبي :
ــ مسكتك يا حلو، أنت ابن جمعة،أبوك سابك وهرب ، ها أوديك قسم الميناء عِدل ..
ــ سيبني ياعم مرعي الله لا يسيئك ، والله أنــــــــا ماليا ذنب..
ــ قدامي ....
،،،،،،،،*

ــــــــــــــــــــ
1ـ الموردة : مكان المزادة علي بيع حصيلة الأسماك .
2ـ الباظ : تصريح دخول الميناء " باسبورت ".
3ـ السعدية : مكان استخراج تصاريح المغادرة ..
4 ـ الكوارته : أحد جوانب المركب .
5ـ المسامحة : كلمة كانت تطلق علي " الإجازة الصيفية للمدارس ".
6ـ الكباري : جمع كوبري ويطلق علي المقالب الساخنة .

ــــــــ
محمد عبده العباسي
بورسعيد / مصر